إنّ مهارات القراءة الناقدة تُفيد في التمييز بين الغث والسمين، واكتشاف المغالطات الفكرية، وتحري الصواب، وتمحيص أفكار المؤلفين، وتعيين مقاصدهم القريبة والبعيدة، والقدرة على تقويم وتحليل ما يُقدم للطلاب داخل المدرسة وخارجها. كما تساعد تلك المهارات على تمييز النافع من الضار من التيارات الفكرية، وتحرى الصواب من القيم الاجتماعية، واختيار الأفضل من النماذج الاقتصادية والثقافية، ويستلزم ذلك تحليل المضمون وكشف الدلالات والمعاني التي ينشدها المؤلفون، ويهدفون من ورائها إلى تحقيق غايات معينة وبث أفكار محددة.

وتؤكد الاتجاهات المعاصرة أنّ القراءة الناقدة أحد المداخل المُهمة لتشكيل السلوك الناقد للإنسان وتطويره، فالقراءة في مستوياتها العُليا هي عملية فحص ناقد تتيح للقارئ فرصة اكتشاف الأفكار والعلاقات ومراجعتها وتقويمها، وبناء تصورات حول مضامين النص المقروء، كما أنها عملية تفكير نشطة، يستخدم فيها القارئ أساليبه وخبراته، واستراتيجيته؛ لبناء معايير جديدة وعمل استنتاجات، وتنبؤات محتملة في ضوء ما يشتمل عليه النص.

ويُعد التدريب علي مهارات القراءة الناقدة أحد الوسائل الفعّالة في تكوين القارئ الماهر - وبخاصة في هذا العصر الذي تضخّمت فيه وسائل التزييف والتضليل – إذ يُفيد هذا التدريب في التخلص من أنماط التفكير السائدة في مجتمعنا، والتي تؤكد علي النواحي العاطفية والانفعالية، والرؤية الشخصية للأمور، مما يستدعي تخليص المجتمع من هذه الأنماط بإعداد مناهج تعليمية، وتطوير استراتيجيات تؤكد علي روح النقد وإبداء الرأي، وحرية التفكير والإبداع.

ويختلف الباحثون حول تحديد مهارات القراءة الناقدة؛ فمنهم من حددها بخمس وثلاثين مهارة تتمركز حول العمليات العقلية العُليا؛ كالقدرة علي التفريق بين الأفكار الأساسية والفرعية، واكتشاف العلاقات، وعمل الاستنتاجات، وإصدار الأحكام، ومنهم من حددها بسبع مهارات أساسية تشمل القدرة علي التمييز، والمقارنة، والاستنتاج، والتنبؤ، والتقويم، والنقد، وتكاد تجمع الدراسات السابقة في مجال القراءة الناقدة علي أن أبرز مهارات القراءة الناقدة هي القدرة علي التنبؤ، والمشاركة في تحديد مخرجات النص، وإعادة صياغة المعاني والأفكار بقوالب لغوية جديدة؛ بحيث تصبح مهارات القراءة الناقدة بمثابة عمليات تفكيرية عُليا.

ومهارات القراءة الناقدة لا تنمو ولا تنشأ من فراغ، بل لابد من تكاتف كافة المؤسّسات والهيئات المسئولة عن التربية؛ لخلق مناخ يتسم بالحرية المعقولة التي تسمح للإنسان أن يُعبر عن أفكاره ومشاعره، مناخ يشجع على البحث والتساؤل والاكتشاف، مناخ يتحدى قدرات المواطنين ويحترمها ؛ لكي يصبحوا قادرين على الحل الناقد لما يقابلهم من مشكلات، في ظِـل هذا المناخ المأمول يجب أن يقوم المعلم – في كل مراحل التعليم- بالعديد من الأدوار، كمتحدث، ومستمع، ومفكر، وقائد، ومرشد، وباحث. فالنجاح في تنمية مهارات القراءة الناقدة يتوقف على المعلم كأحد المحاور المهمة في هذا الشأن، وأسلوب الأداء الذي يتبعه، إذ إنّ كثيرًا من المتعلمين لن يتقنوا مهارات القراءة الناقدة ما لم يوجههم المعلم إلى كيفية القراءة، فلا يتقبلون كل ما يقرءونه علي أنه قضية مُسلَّم بصحتها، بل يُعملون فيه فكرهم، ويُحكّمون عقولهم، ليتقبلوا منه ما يرونه صحيحا ـ عقلاً وشرعًا وعُرفًا ـ ويرفضوا ما دونَ ذلك.

ويجب على المعلمين في كل مراحل التعليم أن يستخدموا استراتيجيات تدريسية فعّالة تستهدف تنمية القراءة الناقدة والتفكير الناقد لدى الطلبة، وإقدارهم علي توليد الأفكار والآراء المبدعة.

ويستطيع المعلمون تحقيق ذلك بإتباع طرائق تدريسية فعالة في تنمية مهارات القراءة الناقدة، مثل: طريقة الحوار والمناقشة والأسئلة، كما يُمكنهم ذلك من خلال مناقشة طلابهم فيما فرأوه، ومطالبتهم أنْ يُبيّـنوا وجهة نظرهم فيما يقرأونه، أو تقديم مقالين يتناولان موضوعًا واحدًا من وجهتي نظرٍ مختلفتين، ثمَّ يَطلب المعلم من طلابه أن يذكروا وجهة نظرهم، ولماذا يفضلون رأيًا على الآخر، وهل يتحيز أحد المقالين لوجهة نظر معينة.

تأسيسًا على ما سبق يُمكن القول بأن المعلمين يتحملون مسؤولية كبيرة في تنمية مهارات طلابه- بل تنمية وجدان الأمة، وتأكيد قيمها، وتحقيق تماسكها والحفاظ على أصالتها- وبخاصة ما يتصل منها بمهارات القراءة الناقدة التي أصبحت ضرورة من ضرورات المجتمع المتحضر النامي المتطور، فبها تمحّـص الأفكار، وتكشف الحقائق المجهولة، وعن طريقها تنمو الحياة الثقافية والفكرية داخل المجتمع، ويتشكل المواطن المنتج المستنير، وهي دعوة إلى المشاركة الفعالة والمواطنة المنتجة، والتفكير العلمي السليم.