إن لكل لغة إمكاناتها، وليس العمل الأدبي إلا
بناءً لغويًّا يستغل أكبر قدر ممكن من هذه الإمكانات. ولكن هذا البناء لا تأخذ
صورته شكلا طبيعيا، "فهي ليست تخطيطا هندسيا أو شكليا، ولكنها أقرب إلى أن تكون
-كما هو الشأن في الموسيقى- تطورًا ناميًا لموضوع. فالأدب إذن -كالموسيقى والمسرحية
الممثلة- فن حيوي، بمعنى أنه حركة تحدث نتيجة لقوة"2.
معنى هذا أن الأدب يستخدم أداة تعبيرية من نوع خاص، يتحقق فيها إمكانات الموسيقى من جهة، كما أنه يتبع في تكوينه نظاما تشكيليا خاصا بها. ولكن الأدب -بعد كل هذا، أو قبله- ليس موسيقى وليس نحتًا, فالأديب الذي يخيل إليه أنه يستطيع في عمله أن يخلق بناء موسيقيا إنما هو أديب واهم؛ لأن "الموسيقى فن هائل قائم بذاته، وإمكاناته الخاصة تقع نهائيا وراء مدى اللغة المتكلمة"3. وكذلك الأدباء الذين يظنون أنهم يستطيعون أداء مهمة الفن التشكيلي في اللغة قد جرهم سوء الفهم إلى أن يحاكوا الفنانين، سواء باهتمامهم بالتفصيلات التي تقع عليها العين، أو بوصف أعمال من الفن التشكيلي.
والحق أن العمل الأدبي من حيث هو بناء لغوي يتضمن إمكانات موسيقية وأخرى تشكيلية، ولكن هذه الإمكانات في اللغة تعدو وسيلة لا غاية. قد يستفيد الأديب من الإيقاع والتجانس الصوتي وغيره من الزخارف الصوتية التي يستطيع تحقيقها في عمله الأدبي، ولكن يوم تصبح هذه الأشياء هي كل مهمته فعندئذ لا يمكن أن يقال: إنه قد أنتج أدبًا؛ لأن الأدب شيء غير الموسيقى. ويستفيد الأديب بلا شك من الصور الحسية التي يلجأ إليها ليحقق المشاعر والمعاني في أشكال ملموسة مؤثرة، كما يحدث في استخدامه للاستعارة مثلا. ولكن أين تقع هذه الصور الحسية التي يكونها الأديب؟ إنها في الحقيقة لا تتمثل إلا في الخيال, فحين يقول أبو تمام في ممدوحه أنه:
رقيق حواشي الحلم، لو أن حلمه ... بكفيه ما ماريت في أنه برد
ويرسم لنا هذه الصورة الحسية للحلم، فإنه لم يرسم لنا صورة تنهض أمام العين كما هو شأن المصور، ولكنها صورة تتمثل في الخيال. وكذلك لا يمكن أن يقوم العمل الأدبي على حشد من هذه الصور مستقلة، كما لم يمكن أن يقوم على حشد من الزخارف الصوتية. أليس من الأفضل أن نقول: إن العمل الأدبي بناء لغوي يستغل كل إمكانات اللغة الموسيقية والتصويرية والإيحائية والدالة في أن ينقل إلى المتلقي خبرة جديدة منفعلة بالحياة؟ ليس هذا بطبيعة الحال تعريفًا للأدب، وإنما هو اقتراح لتعريف "العمل الأدبي"؛ لأن العمل الأدبي هو الشيء القائم الملموس، وهو ما يمكن أن نتناوله بالدرس. أما الأدب ذلك الشيء المجرد، فما أولانا ألا نتعب أنفسنا في محاولة تعريفه.
وقد قلنا في سياق الكلام: إن الأديب يستخدم اللغة استخدامًا خاصًّا، والواقع أن هذا لا بد أن يكون بدهيًّا، على الأقل من حيث إن كل أديب له شخصيته المستقلة، فيتبع ذلك أن تكون له لغته الخاصة، أو لنقل أسلوبه الخاص.
معنى هذا أن الأدب يستخدم أداة تعبيرية من نوع خاص، يتحقق فيها إمكانات الموسيقى من جهة، كما أنه يتبع في تكوينه نظاما تشكيليا خاصا بها. ولكن الأدب -بعد كل هذا، أو قبله- ليس موسيقى وليس نحتًا, فالأديب الذي يخيل إليه أنه يستطيع في عمله أن يخلق بناء موسيقيا إنما هو أديب واهم؛ لأن "الموسيقى فن هائل قائم بذاته، وإمكاناته الخاصة تقع نهائيا وراء مدى اللغة المتكلمة"3. وكذلك الأدباء الذين يظنون أنهم يستطيعون أداء مهمة الفن التشكيلي في اللغة قد جرهم سوء الفهم إلى أن يحاكوا الفنانين، سواء باهتمامهم بالتفصيلات التي تقع عليها العين، أو بوصف أعمال من الفن التشكيلي.
والحق أن العمل الأدبي من حيث هو بناء لغوي يتضمن إمكانات موسيقية وأخرى تشكيلية، ولكن هذه الإمكانات في اللغة تعدو وسيلة لا غاية. قد يستفيد الأديب من الإيقاع والتجانس الصوتي وغيره من الزخارف الصوتية التي يستطيع تحقيقها في عمله الأدبي، ولكن يوم تصبح هذه الأشياء هي كل مهمته فعندئذ لا يمكن أن يقال: إنه قد أنتج أدبًا؛ لأن الأدب شيء غير الموسيقى. ويستفيد الأديب بلا شك من الصور الحسية التي يلجأ إليها ليحقق المشاعر والمعاني في أشكال ملموسة مؤثرة، كما يحدث في استخدامه للاستعارة مثلا. ولكن أين تقع هذه الصور الحسية التي يكونها الأديب؟ إنها في الحقيقة لا تتمثل إلا في الخيال, فحين يقول أبو تمام في ممدوحه أنه:
رقيق حواشي الحلم، لو أن حلمه ... بكفيه ما ماريت في أنه برد
ويرسم لنا هذه الصورة الحسية للحلم، فإنه لم يرسم لنا صورة تنهض أمام العين كما هو شأن المصور، ولكنها صورة تتمثل في الخيال. وكذلك لا يمكن أن يقوم العمل الأدبي على حشد من هذه الصور مستقلة، كما لم يمكن أن يقوم على حشد من الزخارف الصوتية. أليس من الأفضل أن نقول: إن العمل الأدبي بناء لغوي يستغل كل إمكانات اللغة الموسيقية والتصويرية والإيحائية والدالة في أن ينقل إلى المتلقي خبرة جديدة منفعلة بالحياة؟ ليس هذا بطبيعة الحال تعريفًا للأدب، وإنما هو اقتراح لتعريف "العمل الأدبي"؛ لأن العمل الأدبي هو الشيء القائم الملموس، وهو ما يمكن أن نتناوله بالدرس. أما الأدب ذلك الشيء المجرد، فما أولانا ألا نتعب أنفسنا في محاولة تعريفه.
وقد قلنا في سياق الكلام: إن الأديب يستخدم اللغة استخدامًا خاصًّا، والواقع أن هذا لا بد أن يكون بدهيًّا، على الأقل من حيث إن كل أديب له شخصيته المستقلة، فيتبع ذلك أن تكون له لغته الخاصة، أو لنقل أسلوبه الخاص.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق